Wednesday, September 14, 2011

مزرعة الحيوانات - بقلم عبد الله مجدي

مزرعة الحيوانات
(حين تصنع الثورة نفسها)

مزرعة الحيوانات أو إن شئت فأطلق عليها ثورة الحيوانات. بالطبع قد قرأت عن بعض الثورات، حُكي لك عنها، شاهدتَ أحداثاً منها، ولربما عاصرتها يوم 18 ديسمبر بتونس، أو يوم 25 يناير بمصر، أو في 17 فبراير بليبيا، أو ربما تصنعها حاليا أنت وأقرانك. لكنني أكاد أجزم أنك لم تعاصر أي ثورة للحيوانات، ربما شهدت عصيان أسد محمد الحلو وافتراسه إياه، لكنك لم تشهد عصيان مجموعة من الحيوانات علي الجنس البشري وطرده من حديقة الحيوانات مثلا. لكن هذا ما حدث في رواية مزرعة الحيوانات للكاتب الإنجليزي جورج أورويل والذي كتبها عام 1944م، فقد تمردت الحيوانات علي راعيها، وانقلب الفأس علي مزارعها، وطُرد البشر من المزرعة شر طردة.
لقد حاكي الكاتب في روايته الحيوانات، وهذا الفن القصصي موجود منذ الأزل ويلجأ له المؤلف حينما يحتاج إلي التمويه الظاهري والتي قد تكشف من ورائها الغاية التي يحرص الكاتب علي عدم التصريح بها مكتفيا بالإشارة لها في محاكاته للحيوانات. وهذا الفن يسمي " الخرافة أو القصة علي لسان الحيوان " وهو من الأجناس الأدبية القديمة ويمكن القول إن حكاية "السبع والفأر" المصرية – والتي وجدت مكتوبة علي إحدى أوراق البردي في القرن الثاني عشر قبل الميلاد – تعد أول أثر أدبي لهذا الجنس الرمزي الناطق بلسان الحيوان، ويكون ما عداه من الآثار الرمزية تاليا له ومتأثرا به. ولعل أشهر قصص محاكاة الحيوانات هي "كليلة ودمنة" هذه الرواية ذات الأصل الهندي والتي كانت بعنوان "القصص الخمس" والتي يرجع تاريخها إلي القرن العاشر الميلادي، لقد تُرجمت إلي اللغة العربية بواسطة عبد الله بن المقفع في القرن الثامن الميلادي، وبعدها ضاع الأصل الهندي وفُقد كل أصل تُرجمت إليه الرواية، وبقي الأصل العربي الذي ترجمه ابن المقفع، والذي تُرجم إلي العديد من اللغات بعد ذلك؛ فلولا الأصل العربي لما وجدت كليلة ودمنة، وقد بدا واضحاً مدي التأثير والتأثر به في الترجمة للغات الأخرى .
ولم يتوانَ الكُتَّاب بعد ذلك في التأليف في هذا الجنس الأدبي الشيق الذي لا يجيده إلا الكاتب المحنك ذو الرؤية البعيدة للأمور، مثل ما ألفه أمير الشعراء من أبيات يرمز بها إلي ضرورة الوفاء والتعاون بين الناس قائلا:      
حكاية الكلب مع الحمامة  *  تشهد للجنسين بالكرامة
طبعا لم يأتِ اختيار هذه الرواية الثورية في هذا التوقيت بالذات اعتباطاً، فنحن نشهد أحداثاً قد يأتي اليوم الذي أري فيه نفسي أتحدث مثل جدتي وهي تتحدث عن أعقاب ثورة 1952م . عندما كنت أسمع فلاناً يتكلم عن حدث معين قائلاً بأنه لم يحدث في ثورة من قبل؛ كنت أستغرب كلامه فكنت اعتقد تمام الاعتقاد أنه ليس هناك كتالوج للثورات ولا توجد ثورة تشبه الأخرى، لكنني حقاً وجدت أن ثورتنا تشبه ثورة الحيوانات هذه! فعلى طول الرواية حين قراءتها لأول مرة، وحين معاصرتك ثورة لأول (1) ستجد التشابه كبير لدرجة مفزعة، لدرجة قد تشك فيها للحظة بأنك حيوان مثل تلك الحيوانات الثورية، قد تجد التشابه في حالهم قبل الثورة، وقد تجده بعدها وقد تجده في الاثنين معاً.
قد تجد سؤالاً من المهرة البيضاء وهي تقول: هل سيكون ثمة سكر بعد الثورة؟ تطمئن الفرسة علي طعامها بعد الثورة، لكن حقاً هل وجدنا سكراً بعد ثورتنا؟ أم أنه علينا أن ننتظر ثورة أخري نجد فيها حلاوة السكر. لكن السكر الأكيد الذي ذقته عندما كنت أطير بين صفحات هذه الرواية. في البداية لم أكن أعتقد أنها شيقة بهذا القدر، لكن اتضح العكس بعد ذلك، وبعد هذه المقدمة الطويلة هيا بنا نقفز قفزات يسيرة بين تلك السطور باحثين هنا أو هناك عن معني خفي أو لفظ جلي.
حينما غنت الحيوانات نشيد "يا حيوانات إنجلترا" بأصواتها، ذكر الكاتب أن البقر غناها بخواره والكلاب بنباحها والخيول بصهيلها ...الخ، دعاني هذا إلي البحث عن أصوات بعض الحيوانات وقلت لم لا أذكر صوت كل حيوان من حيوانات هذه المزرعة وسأرتبها حسب قوة ظهورها في الرواية: الخنزير: قباع / الكلب: نباح / الحصان: صهيل / الحمار: نهيق / الحمامة: هديل / البقرة: خوار / الماعز: ثغاء / الدجاجة: نقنقة / الديك: صقاع - صياح / البطة: بطبطة / الغراب: نعيقنعيب / القط: مواء / الفأر: صرير / الأرنب: ضغيب .
حينما قامت ثورة الحيوانات من أول الأشياء التي فعلها الثوار تغيير اسم المزرعة من "مزرعة مانور" إلي "مزرعة الحيوانات"، ولقد ذكرني هذا بما فعلناه عندما أزلنا اسم الرئيس السابق من الميادين والمحطات وغيرها ... في ثورة الحيوانات هذه تحول الجميع إلي أشخاص إيجابيين، أصبح الجميع يعمل بكد، لم يسرق أحد (كانت ملامح الزمن السابق المعتادة تختفي)، تذكرت حينها أنه أقيمت دعوي لجمعة سميت بجمعة العمل؛ للأسف لم تكن مليونية مثل باقي أيام الجُمع ولا ألفية ولا حتى مئوية، ولن تنجح ثورتنا طالما هناك جُمع لتكسير أسوار وتفجير محطات وإحراق أعلام وليس هناك جُمع للقضاء علي الفساد أو للعمل بكد وجد .
العجوز "بنيامين" الذي لم يتغير منذ الثورة؛ لأنه ببساطة لم يجد في الثورة ما يدعي التغيير كان يؤدي عمله بنفس الأسلوب، منذ مدة قابلت رجلاً في الشارع يسب الثورة ويلعنها لأنها لم تأت إلا بالبلطجة والانفلات .... لم أتعجب كثيراً عندما قرأت حال الحمار بنيامين، فلقد شاهدت أمثاله علي الأرض، وسمعت أنهم يسمونهم بـ "حزب الكنبة".
تُري لماذا اختار الكاتب لنابليون أن تكون حراسته من الكلاب؟ أعلم تماما أن الكلاب لم تخلق إلا للحراسة، لكنني أتعجب حين أسمع أن من كلاب السلطة من كانت تحرس سيدها ليزداد طغياناً علي شعبه، وأتعجب أيضا حين أري أن من الأغنام من أصبحت بوقاً للنظام بشعارها السمج "السيقان الأربع خير والساقان شر"، فلقد كان يُخرس أي لسان يعترض أو يبدي رأيه بترديده دائماً، هذه الأغنام تجدها دائما في انتخابات شخص ما تغثو بهتافٍ لا معني له، أو تجدها في مؤتمر شعبي تغطي علي عيوب الخطب بغثائها."نابليون دائما علي حق"، بعض الناس كانوا مثل "بوكسر" في التكلم عن الرئيس السابق لأنهم ببساطة لا يريدون التفكير بعقولهم ولو لمرة، وكان هناك دوماً من كان يلعب بتلك العقول الخاوية والمتمثل في "سكويلر" الخنزير الداهية الذي كان يخوفهم دائما من عودة جونز.
لقد تعجبت مرة واثنين وثلاثة من سذاجة هذه الحيوانات، وأنه يسهل أن تقنعهم بأي شيء بسهولة، لقد قام "سكويلر" بدور أحمد عز في مسرحية مجلس الشعب في الموافقة علي القرارات واللعب بعقول باقي أعضاء المسرحية. "الثورة قد اكتملت" ... هكذا صرح "سكويلر" ؛ أمر أن يُحظر غناء "حيوانات انجلترا" متحججاً أنه تم التخلص من العدو الداخلي والخارجي، يا ليت ثورتنا مثلهم !فنحن نعاني حتى الآن من هذا العدو الداخلي والخارجي. لقد تعامل " سكويلر " بذكاء في موضوع الوصايا السبع، لم يغيرها كلها دفعة واحدة، أو يزيل إحدى هذه الوصايا، وإنما كان يزيد كلمة بحيث لا يشعر أحد. زاد كلمة الملاءة علي بند لا ينام حيوان علي سرير، ثم زاد كلمة بسبب في بند لا يقتل حيوان آخر، وأخيراً وليس آخراً زاد كلمة بإفراط في بند لا يشرب حيوان الخمر. أعتقد أن هذا ما كان يحدث في صياغة بعض القوانين ومواد الدستور، حينما كانت يزال أو يزاد حرف أو مادة ومن ورائها مادة حتى يصبح الأمر وكأنه أكلها طبخها طاهٍ علي دفعات.
إن من أكثر المشاهد تأثيراً مشهد نقل الحصان " بوكسر " علي عربة الجزار فلقد برع الكاتب والمترجم في وصف هذا المشهد المؤلم الذي تنتهي معه حياة هذا الحصان البائس. أتعجب من "بنيامين" الذي أصبح أكثر كآبة بعد موت "بوكسر" أيوجد كآبة أكثر من التي وُصف بها طول الرواية؟
هذه بعض اللمحات والومضات اليسيرة التي استوقفتني عند قراءتها، لكن جُل ما شغل تفكيري إلي الآن هي النهاية، فالرواية عبارة عن عشرة فصول، يتحدث الفصل الأول منها عن زمن ما قبل الثورة، وفي الفصل الثاني تبدأ الثورة الحقيقية، ثم تتحدث الفصول الثمانية الأخرى عن عهد ما بعد الثورة.
في الحقيقة أهم ما في الثورات هو عهد ما قبل الثورة، ما الأسباب التي فعلها الحكام لكي تشتعل ثورة ضدهم؟ وكم أخذت من مدة لكي تشتعل؟ أعرف أن المهم هو التأريخ للثورة نفسها؛ لكنني لكي أعي الثورة لابد أن أعي أسبابها. طوال عهد ما بعد الثورة أتساءل كيف ستنتهي القصة؟ هل سينتصر الثوار؟ أم هل ستنتهي فترة ما بعد الثورة آتية من ورائها أعواد من الثقاب تشتعل بها ثورة أخري!
علي غير المعتاد سأختتم مقالي بعدة مقولات نسجتها من وحي كلمات ومعاني الرواية، لن أثني علي الرواية أو المؤلف فهذا إن لم يظهر بين ثنايا السطور فلا داعي من مقالي إذن ......
ü     في الثورات تكثر الشائعات.
ü     دائما يكون هناك قائد للثورة، ثم يتحول بعد مدة قائداً لثورة مضادة لها.
ü     القائد الحق ... يقول للسلطة لأ.
ü     يصعب علي الشخص الذي عاش في ثورة أن يرجع لأيام ما قبل الثورة، لكن لا يصعب علي شخص العيش في أيام ما قبل الثورة طوال حياته.
ü     أحياناً تحتاج الثورة لثورة.
ü     قد يكون الملح أفضل من السكر.
ü     من تعلم لغة الحيوانات أمن مكرهم.
ü     نحن آسفون يا جونز.
ü     كلنا سنوبل الخنزير.
ü     الديك الذي يظهر أمام نابليون.
ü     فقط الحمار من يعتبر الحمار حماراً.




(1) من أجل ذلك قال العقاد " إنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا وحياة واحدة لا تكفيني "  فلو كنت تقرأ ثورات من قبلك لعشتها تماما كما عاشوها .