Wednesday, September 14, 2011

رسالة إلي كل مثقف - بقلم منى علام

رسالة إلى كل مثقف
(لا تكن "سكويلر")
بقلم: منى علام
كلما وجدت أحدهم يفعل مثلما يفعل "سكويلر" أشعر بالغضب المقرون بالاحتقار تجاهه وأتساءل: هل نسى الرقيب الذي إليه المنتهى؟
في تعريف المثقف :
أتحدث عن "المثقف" الذي يرتضي أن يكون نصيرا للطغاة والمستبدين، والواقع أن كلمة "مثقف" تبدو دائما كلمة فضفاضة وعصية على التحديد، وقد اختلفت وجهات النظر حول تعريف "المثقف" اختلافا كبيرا، فهناك من يرى أنه شخص وُهِب ملكة عقلية لتوضيح رسالة أو وجهة نظر أو موقف أو فلسفة أو رأي، أو تجسيد أي من هذه، أو تبيانها بألفاظ واضحة لجمهور ما أو نيابة عنه (1)، وهناك من يرى أنه شخص يحمل في ذهنه أفكارا من إبداعه هو أو من إبداع سواه، ويعتقد أن تلك الأفكار جديرة بأن تجد طريقها إلى التطبيق في حياة الناس؛ فيكرس جهده لتحقيق هذا الأمل، ويجاهد في إخراجها من عالم الفكر المحض إلى عالم التنفيذ(2) .
وبعيدا عن أي تعريف نظري لتلك الكلمة، وكي أكون أكثر وضوحًا في ذهن قارئي، وكذلك أكثر بعدا عن الجدل النظري الذي لا يحتمله هذا المقال، فإن كلمة "مثقف" تستخدم في الغالب للإشارة إلى الأدباء والشعراء والمفكرين وأساتذة الجامعات والعاملين في مجال الصحافة والإعلام - من صحفيين وكتاب ومذيعين ومعدي برامج - والفنانين أيًا كانت نوعية الفن التي يمارسونها، وغيرهم ممن يَكُوْنون – أو من المفترض أن يكونوا – على درجة أكبر من الوعي مقارنة بعامة الناس، ويستطيعون التأثير في الرأي العام من خلال كتاب أو مقال أو محاضرة أو ندوة أو أغنية أو فيلم أو مسلسل أو برنامج إذاعي أو تليفزيوني أو رسم كاريكاتوري .... الخ.

لا تكن مثله:
هذا عن المرسل إليه ... أما عن الرسالة، فمضمونها يتلخص في عبارة واحدة قصيرة تتكون فقط من ثلاث كلمات وهى: "لا تكن سكويلر".
من "سكويلر"؟
و"سكويلر" هذا هو إحدى الشخصيات الرئيسية في رواية "مزرعة الحيوانات" للكاتب الإنجليزي "جورج أورويل"، فإلى جانب الخنزيرين "نابليون" و"سنوبول" كان هناك خنزير ثالث اسمه "سكويلر"، هؤلاء الخنازير الثلاثة كانوا أذكى حيوانات المزرعة، وكانوا الأكثر اتصالا بالخنزير العجوز "ميدل وايت" الذي كان أول من حرض الحيوانات على الثورة على الجنس البشرى ممثلا في "مستر جونز" صاحب المزرعة للتخلص من كل الآلام والمصائب التي يسببها لهم الإنسان الذي يعتبر العدو الحقيقي لكل الحيوانات، وقد تلقى كل من "نابليون" و"سنوبول" و"سكويلر" عن هذا الخنزير العجوز مبادئه وتعاليمه وأخذوا على أنفسهم – بعد موته - أن يعلموها لباقي حيوانات المزرعة .. وبعد أن تحقق الحلم وقامت الثورة وتمكنت الحيوانات من الإطاحة بـ "مستر جونز" حل الخنازير الثلاثة محله، وتولوا زمام الأمور داخل المزرعة، وأصبحوا المسئولين عن إدارة شئون الحيوانات .
سكويلر ... المثقف عندما ينحرف:
كان "سكويلر" – كما يصفه الكاتب – متحدثا لبقا لديه قدرة كبيرة على الإقناع، وقد كانت حيوانات المزرعة معجبة بذكائه ومهارته، وتقول أنه يستطيع أن يقنعها بأن الأسود أبيض والأبيض أسود، وقد كان "سكويلر" الذراع اليمنى للزعيم "نابليون" الذي كان يعتمد عليه في تهيئة عقول الحيوانات لقبول القرارات المهمة التي يضعها، فمثل أي حاكم مستبد يعمل على تثبيت دعائم حكمه حتى يضمن بقاءه في السلطة حرص "نابليون" على امتلاك أداة مادية للبطش بالمعارضين، وإرهاب كل من يفكر في التمرد، وتمثلت هذه الأداة في "الكلاب"، كما حرص في الوقت ذاته على أن يتخذ "سكويلر" أداة لا تقل أهمية عن سابقتها، وهي التي يستطيع من خلالها تزييف وعي الحيوانات، وإيهامهم بأن "نابليون" هو الزعيم الذي يعيشون في ظله في سعادة ورفاهية، رغم أن الواقع كان خلاف ذلك تمامًا، ومن ثم يمكن القول أن "سكويلر" يمثل – على الأقل من وجهة نظري – نموذجا للمثقف الذي ينحرف عن مهمته ويخون رسالته ويرتضي أن يكون خادما للسلطة ملتزما بكافة مقتضيات تلك الخدمة من لَيٍّ للحقائق وترويج للأكاذيب .
بعض من جرائمه:
        استغل "سكويلر" مواهبه وقدراته في تضليل الحيوانات بإحلال الأكاذيب محل الحقائق من أجل خدمة "الزعيم"، فقد كان يتجول كل صباح في أنحاء المزرعة - بتكليف من "نابليون" - ويختلط بجميع الحيوانات ليشرح لهم الإجراءات الجديدة التي تم اتخاذها وحكمتها وفائدتها، ويدعوهم إلى أن يقدروا هذه التضحية الكبيرة التي يقدمها "نابليون" متحدثا عن طيبة قلبه وحبه العميق للجميع، فقد ضحى براحته من أجل راحتهم، وارتضى – من أجلهم – أن يحمل على عاتقه جميع الأعباء، وكان يردد على أسماعهم باستمرار أن "نابليون" دائما على حق، وأنه هو "وحده" الذي يعرف مصلحتهم، ويبذل كل ما بوسعه من أجل تحقيقها، ويؤكد لهم أن الولاء أهم من كل شيء، والولاء – كما أخبرهم - ليس معناه الطاعة والخضوع، ولكن معناه النظام.
وكان "سكويلر" يعمل دوما على تبرير الأخطاء - بل قل الجرائم - التي كان الزعيم "نابليون" يرتكبها، فقد برر للحيوانات مثلا استيلاء الخنازير دون غيرهم على اللبن والتفاح؛ بأن الخنازير لا تشرب اللبن ولا تأكل التفاح من باب الأنانية، ولكن من أجل مصلحتهم هم، فقد ثبت بالعلم أن شرب كمية كبيرة من اللبن وأكل كمية كبيرة من التفاح أمر ضروري لمن يعملون بأذهانهم مثلما يعمل الخنازير في تنظيم المزرعة وإدارتها، ولو ضعفت عقولهم واختل تفكيرهم وفشلوا في تأدية واجبهم على الوجه الأكمل؛ فإن النتيجة المحتومة هي عودة مستر "جونز" .. وكان ذكر هذه "الفزاعة" كفيل بإقناع الحيوانات بأن توافق على الفور على أي قرار يعرض عليها من قبل الزعيم "نابليون".
وإلى جانب تجميل وجه "الزعيم" القبيح وتبرير جرائمه هناك أيضا تشويه صورة الشرفاء وتخوينهم وتزييف التاريخ بنسبة إنجازات قام بها آخرون إلى الزعيم، فحين قرر "نابليون" في لحظة ما القضاء على "سنوبول" وإقصاءه من المشهد ليتصدره هو بمفرده وليستأثر وحده بالسلطة كانت مهمة "سكويلر" أن يعمل على تشويه صورة "سنوبول"، وإقناع الحيوانات بأنه لم يكن إلا مجرما وخائنا، وأنه يتآمر مع آخرين للهجوم على المزرعة، وذلك رغم أن "سنوبول" هذا هو بطل معركة "بيت البقر" التي وقعت بين حيوانات المزرعة من ناحية، ومستر "جونز" ورجاله من ناحية أخرى، حيث أبلى فيها بلاء حسنا، وقاتل ببسالة، وتم منحه نيشان "الحيوان البطل من الدرجة الأولى" بعد المعركة، إلا أن "سكويلر" أخذ يؤكد للحيوانات أن "نابليون" هو البطل الحقيقي لهذه المعركة، ولولاه لكانوا جميعا اليوم في عداد الموتى أو في عداد العبيد !!
ورغم الواقع الأليم الذي كانت تعيشه حيوانات المزرعة بعد الثورة، حيث كانت تعمل أكثر مما كانت تعمل أيام مستر "جونز"، وتأكل أقل مما كانت تأكل تلك الأيام، إلا أن "سكويلر" كان قادرا على أن يقنع الحيوانات بعكس ذلك، حيث كان يثبت لهم "بالأرقام" أن حياتهم صارت أفضل كثيرا من ذي قبل، وعندما تقرر خفض كمية التموين باستثناء تموين الخنازير والكلاب  كان "سكويلر" حاضرا كالعادة ليشرح ويفسر هذه النقطة، حيث أكد للحيوانات أن الخنازير والكلاب هي أكثر الحيوانات عملا، ومن ثم يجب أن تكون حصتها من التموين أكبر كثيرا من حصة الحيوانات الأخرى، وفضلا عن هذا فإن الأرقام التي قرأها "سكويلر" بصوت حاد قد أثبتت للحيوانات أن كل شيء أفضل مما كان في العهد الماضي، أما في التموين فقد حدث شيء من "التعديل في التوزيع" وهو التعبير الذي أصر "سكويلر" على استعماله، ولم يحدث أبدا أن اعتبر هذا تخفيضا !!
رسالة المثقف ودوره:
لا شك أن الحديث عن "سكويلر" وأفعاله ذكرك عزيزي القارئ – تماما مثلما ذكرني – بالعديد من "المثقفين" الذين يفعلون مثلما يفعل "سكويلر"، سواء كانوا أساتذة جامعات أو صحفيين أو كتاب أو أدباء أو فنانين، أو غيرهم ممن يعيشون في عصرنا، أو ممن عاشوا في عصور سابقة، ويبدو أنه كما يتشابه المستبدون في كل زمان ومكان، يتشابه كذلك أذنابهم وخدامهم وأساليب هؤلاء الأذناب والخدام في الكذب والتضليل.
لا شك أن ما يفعله بعض "المثقفين" ممن يرتضون أن يكونوا خداما للسلطة من استغلال مواهبهم ومنابرهم في تزييف الوعي، والدفاع عن الظلم والفساد، وإلباس الباطل لباس الحق، وتشويه صورة الشرفاء، والترويج لسياسات وقرارات تؤدي إلى زيادة معاناة الناس وحرمانهم من حقوقهم، إلى غير ذلك من أفعال، لا شك أن ذلك كله يتناقض تمام المناقضة مع الدور الذي يجب على المثقف أن يلعبه في المجتمع؛ إذ من المفترض أن يكون أداة للتوعية والتنوير، لا أداة للتضليل ونشر الأكاذيب، أن يشجب الفساد ويدافع عن الضعفاء والمظلومين، لا يبرر ظلم الحاكم وفساده، ألا يخشى في الحق لومة لائم، لا يطأطئ الرأس ويقبل أن يتلقى الأوامر وينفذها مقابل الحصول على مال أو طمعا في منصب، أن يقدم النصح للحاكم من أجل المصلحة العامة، لا يداهنه أو ينافقه طمعا في شيء، أو خوفا من شيء، وإيثارا للسلامة، أن يعمل من أجل الارتقاء بمجتمعه، لا يكون سببا في نكبته وانهياره.
وإذا كان كل فرد في المجتمع مكلفا - من الناحية الشرعية - بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو التكليف الذي وصفه الإمام أبو حامد الغزالي في "إحياء علوم الدين" بأنه القطب الأعظم للدين، فلا شك أن المثقف - باعتباره الأكثر وعيا وقدرة على التأثير - يكون مطالبًا أكثر من غيره بعدم السكوت عن المنكر فضلا عن أن يعمل على تبريره والدفاع عن مرتكبيه (3).
إن المثقف لا يُقْبل منه أن يلتزم الصمت تجاه أي ظلم أو فساد، ولا يُقْبل منه أن يقف موقفا وسطا بين الحق والباطل، ظانًا أنه بذلك لم يخن رسالته، بل عليه أن يعمل على نصرة الحق وشجب الباطل وإدانته بمنتهى القوة والوضوح.
كلمة أخيرة:
إن المثقف الحقيقي لا يمكن أن يقبل – مهما كانت الإغراءات أو التهديدات، ومهما كانت المكاسب أو الخسائر – أن يكون "سكويلر" .. فلو فعل لن يفقد فقط أهليته لأن يكون مثقفا، بل سيفقد أيضا كرامته .. بل إنسانيته.
منى علام
الهوامش:
(1) صور المثقف, إدوارد سعيد, دار النهار للنشر ش م ل, بيروت, الطبعة الثالثة, آب 1997, ص 28 .
(2) مجتمع جديد أو الكارثة, زكى نجيب محمود, الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة, 2008, ص 323 .
(3) للإسلام والديمقراطية, فهمي هويدي, مركز الأهرام للترجمة والنشر, القاهرة, الطبعة الأولى, 1993, 86.